
أسرار بقاء الأجانب في تركيا: الطريق الطويل من الإقامة إلى الجنسية
تُعتبر تركيا خلال العقدين الأخيرين من أكثر الدول التي جذبت أعدادًا ضخمة من الأجانب من مختلف الجنسيات، خاصة من الدول العربية والآسيوية، بسبب موقعها الجغرافي الذي يربط الشرق بالغرب، وبسبب ما توفره من فرص عمل وتعليم وحياة اجتماعية أقرب في التقاليد والثقافة إلى المجتمعات العربية مقارنة بالدول الأوروبية. ومع أن الأجانب اليوم يشكلون مكونًا مهمًا من النسيج الاجتماعي في مدن تركية عديدة مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وغازي عنتاب ومرسين، إلا أن وجودهم ليس أمرًا بسيطًا، بل هو نتاج منظومة قانونية معقدة تحكمها نصوص تشريعية صادرة عن البرلمان التركي، وعلى رأسها قانون الأجانب والحماية الدولية رقم 6458 وقانون الجنسية التركية رقم 5901، إلى جانب مجموعة من القرارات الإدارية التي تصدر بشكل متكرر من وزارة الداخلية ومديريات الهجرة.
السر الأكبر في بقاء الأجنبي بتركيا يكمن في قدرته على الالتزام بالقانون وتحديث أوراقه بشكل دوري. فالإقامة بمختلف أنواعها تمثل حجر الزاوية في هذا الوجود، وهي التي تحدد ما إذا كان الشخص سيعيش باستقرار أو يواجه خطر رفض الطلب أو حتى الترحيل. الإقامة السياحية مثلًا كانت حتى سنوات قليلة الوسيلة الأكثر شيوعًا، حيث كان يكفي أن يقدم الأجنبي عقد إيجار وتأمينًا صحيًا ليحصل على سنة إقامة قابلة للتجديد، غير أن السلطات شددت القواعد بعد أن اكتشفت استغلال هذا النوع للبقاء الطويل دون مبررات قوية، فأصبح الرفض شائعًا، خاصة في بعض الأحياء التي صُنفت "مغلقة أمام الأجانب" بعد وصول نسبتهم فيها إلى أكثر من خمسة وعشرين بالمئة من إجمالي السكان.
أما الإقامة العائلية فهي باب مهم جدًا لمن يتزوج من مواطن أو مواطنة تركية، حيث توفر له الاستقرار القانوني وتجعل حياته اليومية أكثر سهولة، لكن هذه الإقامة أيضًا تخضع لرقابة مشددة للتأكد من أن الزواج حقيقي وليس صوريًا. الطلاب الأجانب كذلك يحصلون على إقامة دراسية طيلة فترة تعليمهم الجامعي، وغالبًا ما يختارون الجامعات التركية لما تتمتع به من سمعة أكاديمية وتكاليف أقل مقارنة بالدول الأوروبية. ومن هنا تبدأ رحلة بعضهم مع الإقامة الطويلة، إذ أن الطالب بعد سنوات يمكنه التحول إلى إقامة عمل أو حتى إقامة طويلة الأمد إذا استوفى الشروط.
الإقامة طويلة الأمد تمثل مرحلة مفصلية، فهي تمنح صاحبها تقريبًا جميع الحقوق التي يتمتع بها المواطن التركي باستثناء المشاركة في الانتخابات والخدمة العسكرية. الشرط الأساسي هنا أن يقيم الأجنبي بشكل متواصل في تركيا مدة ثماني سنوات على الأقل بإقامات قانونية دون انقطاع. كثيرون يعتبرونها جسرًا للجنسية، لأنها تعكس اندماجًا فعليًا بالمجتمع واحترامًا للقانون. ولا يقل عنها أهمية الإقامة العقارية التي أصبحت شائعة خلال السنوات الأخيرة، حيث يشتري الأجنبي عقارًا ويستخدمه للحصول على إقامة لمدة سنتين قابلة للتجديد، وهذا الطريق يمهّد لاحقًا للحصول على الجنسية التركية في حال كان الاستثمار العقاري لا يقل عن أربعمائة ألف دولار وفق التعديلات الأخيرة.
لكن لا تقتصر الأسرار على الإقامة فقط، فالتأشيرات أو الفيزا تمثل المدخل الأول للبقاء في تركيا. من يدخل البلاد بفيزا سياحية يمكنه التحول لاحقًا إلى إقامة، لكن عليه أن يكون دقيقًا جدًا في تقديم أوراقه. هناك أيضًا فيزا الدراسة التي تتحول مباشرة إلى إقامة طالما استمر الطالب في التعليم. فيزا العلاج تمنح الأجنبي حق البقاء طوال فترة علاجه إذا كانت مستندة إلى تقارير طبية معتمدة. أما فيزا العمل فتعتبر مفتاحًا ذهبيًا، إذ ترتبط بتصريح العمل الذي يفتح أمام صاحبه أبواب الاستقرار.
تصريح العمل بدوره ملف بالغ الأهمية، فتركيا لا تسمح لأي أجنبي بالعمل دون إذن رسمي من وزارة العمل والضمان الاجتماعي. هنا تتدخل قوانين أخرى تحكم المهن المسموح بها للأجانب والمهن الممنوعة عليهم مثل الطبابة البيطرية أو بعض الوظائف الأمنية. ولعل أبرز الطرق التي يستخدمها الأجانب للحصول على تصريح عمل هو تأسيس شركة، فالقانون يسمح لصاحب الشركة بأن يطلب تصريح عمل لنفسه ولعدد من الموظفين الأجانب إذا أوفى بالشروط. هذا المسار شائع خاصة بين العرب الذين يسعون للبقاء في تركيا عبر الاستثمار التجاري.
غير أن الطريق لا يخلو من التحديات. السلطات التركية تفرض منذ سنوات سياسة الأحياء المغلقة، بحيث لا يسمح للأجانب بالسكن أو تسجيل إقامة في مناطق محددة تجاوزت فيها نسبتهم الحد المسموح. مدينة إسطنبول على سبيل المثال تضم عددًا من الأحياء المغلقة مثل أجزاء من إسنيورت والفاتح، وهو ما يدفع الأجانب إلى البحث عن بدائل أخرى في ضواحي المدينة أو ولايات أصغر. كذلك فإن تجديد الإقامة السياحية أصبح أكثر صعوبة، حيث تشترط السلطات إثباتات قوية مثل حساب بنكي نشط أو خطط دراسية أو استثمارية حقيقية.
من الأسرار التي يغفل عنها الكثيرون أن التأمين الصحي عنصر أساسي لقبول أو رفض الطلب، إذ أن القانون يشترط أن يكون الأجنبي مغطى بتأمين صحي شامل طوال مدة إقامته. كذلك فإن تسجيل العنوان في دائرة النفوس أمر لا يقل أهمية، لأن عدم التوافق بين العنوان المثبت في عقد الإيجار والعنوان المسجل رسميًا قد يؤدي إلى رفض الإقامة.
ومع كل ذلك، يبقى حلم الجنسية التركية حاضرًا في أذهان الكثيرين. قانون الجنسية رقم 5901 يتيح عدة مسارات للحصول عليها، أهمها: الإقامة الطويلة، الزواج من مواطن تركي، أو الاستثمار سواء العقاري أو المالي. الجنسية عبر الاستثمار العقاري تتطلب حاليًا شراء عقار لا يقل عن 400 ألف دولار مع الالتزام بعدم بيعه لمدة ثلاث سنوات. الجنسية عبر الزواج تحتاج إلى استمرار العلاقة ثلاث سنوات على الأقل مع إثبات حسن النية. وهناك أيضًا الجنسية الاستثنائية التي تُمنح في حالات نادرة لذوي الكفاءات أو للمستثمرين الاستراتيجيين.
الأرقام تكشف أن تركيا تحتضن اليوم ما يزيد عن خمسة ملايين أجنبي بإقامات متنوعة، فيما يعيش ملايين آخرون بصفة الحماية المؤقتة، خاصة من السوريين. ورغم ذلك، فإن عشرات الآلاف يواجهون سنويًا رفض طلبات الإقامة لأسباب تتعلق بعدم استيفاء الشروط أو محاولة التحايل. وهذا ما يجعل من متابعة القوانين بشكل دوري سرًا أساسيًا للبقاء الآمن.
التحديات لا تقف عند القوانين، بل تمتد إلى الحياة اليومية، حيث يواجه الأجانب أحيانًا صعوبات في إيجاد عمل مناسب، أو في التكيف مع اللغة التركية، أو حتى في الحصول على خدمات التعليم والصحة. ومع ذلك، يظل الالتزام القانوني هو الفيصل. فالأجنبي الذي ينجح في تأمين إقامته القانونية ويعمل بتصريح عمل ويحافظ على أوراقه محدثة، يتمكن من الاستمرار في تركيا لسنوات وربما يحصل على الجنسية، بينما الذي يتهاون يجد نفسه أمام خطر الترحيل أو الحرمان من العودة لسنوات.
في النهاية، يمكن القول إن بقاء الأجانب في تركيا ليس لغزًا بقدر ما هو معادلة دقيقة بين القانون والالتزام والقدرة على التكيف. من يعرف القوانين ويستند إلى أرقامها وبنودها وقراراتها الرسمية، ويدير حياته بذكاء، يستطيع أن يحول إقامته المؤقتة إلى استقرار طويل الأمد وربما إلى جنسية كاملة. أما من يعتمد على طرق مختصرة أو يحاول تجاوز القوانين، فسرعان ما يكتشف أن البقاء في تركيا أصعب مما يتصور.