تقرير: أزمة المياه في طهران: خطر الإخلاء يلوح في الأفق
مقدمة
تعيش العاصمة الإيرانية طهران واحدة من أخطر أزماتها البيئية في العقود الأخيرة، إذ تتراجع مستويات المياه في سدودها الرئيسية إلى أدنى مستوياتها منذ بدء القياس الحديث، ما دفع الحكومة إلى وضع سيناريوهات طارئة تشمل احتمال الإخلاء الجزئي لبعض المناطق إذا استمر الانخفاض الحاد في المخزون المائي. ومع تزايد التحذيرات الرسمية والعلمية، بدأت الأزمة تتحول من مسألة إدارة موارد إلى قضية أمن قومي ووجودي للمدينة التي يقطنها أكثر من 9 ملايين نسمة.

تراجع حاد في مخزون السدود
أحدث التقارير الصادرة عن شركة مياه طهران تشير إلى أن مخزون سد أمير كبير، أكبر مصدر للمياه العذبة في العاصمة، انخفض إلى 14 مليون متر مكعب فقط، أي ما يعادل 8% من سعته التخزينية الكلية البالغة نحو 180 مليون متر مكعب.
ووفقًا لمدير الشركة، فإن هذا الحجم “يكفي لتلبية الطلب الحالي لمدة لا تتجاوز أسبوعين” إذا لم تتساقط الأمطار قريبًا، وهو ما يعيد للأذهان مفهوم “اليوم صفر” الذي واجهته مدن كبرى حول العالم مثل كيب تاون بجنوب إفريقيا.
إلى جانب سد أمير كبير، تعاني سدود لتيان ولار وماملو من مستويات حرجة مشابهة، إذ انخفضت تدفقات المياه إليها بنسبة تتراوح بين 40 و45% مقارنة بالعام الماضي. ويرجع الخبراء هذا التراجع إلى شحّ الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة معدلات التبخر، إضافة إلى الاستهلاك المفرط في القطاعين الزراعي والصناعي.

تصريحات وتحذيرات رسمية
في تصريحات نُشرت عبر وكالة “إيرنا”، أكد وزير الطاقة الإيراني أن الحكومة “تراقب الوضع عن كثب”، مشيرًا إلى أن مجلس إدارة الأزمات الوطني عقد عدة اجتماعات طارئة لبحث الإجراءات العاجلة لتأمين المياه للعاصمة.
أما محافظ طهران، فصرّح بأن السلطات وضعت ثلاثة سيناريوهات رئيسية للتعامل مع الأزمة:
تقنين توزيع المياه في الأحياء السكنية والصناعية.
نقل المياه بالصهاريج من المحافظات المجاورة في حال انخفاض المخزون أكثر.
الإخلاء الجزئي المؤقت لبعض المناطق المرتفعة في حال تعذّر استمرار التزويد بالشبكة العامة.
وأوضح المسؤول أن “سيناريو الإخلاء ليس قرارًا مُتخذًا بعد، لكنه مطروح على الطاولة كخيار وقائي في حال الوصول إلى مستوى الخطر الحرج”.

جذور الأزمة: تغيّر المناخ وسوء الإدارة
تعود جذور أزمة المياه في طهران إلى عقود من سوء إدارة الموارد المائية وتغيرات مناخية متسارعة.
فبحسب بيانات الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية، انخفض معدل هطول الأمطار في البلاد بنسبة 27% خلال العقد الماضي، فيما ارتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار 1.8 درجة مئوية، ما أدى إلى تبخّر كميات ضخمة من المياه السطحية والجوفية.
ويشير خبراء البيئة إلى أن إيران تُعد من أكثر الدول استهلاكًا للمياه في الشرق الأوسط، حيث يتجاوز معدل الاستهلاك الفردي اليومي 250 لترًا، وهو رقم يفوق المتوسط العالمي بنحو 40%.
كما ساهمت الزراعة غير المستدامة في استنزاف المخزون الجوفي، خاصة في المناطق المحيطة بطهران، حيث تُزرع محاصيل عالية الاستهلاك للمياه مثل القمح والبنجر في بيئات شبه قاحلة.
إنذار بيئي وإنساني
الخبراء يحذرون من أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى أزمة إنسانية خلال أسابيع.
ويقول الدكتور رضا كريمي، أستاذ الموارد المائية بجامعة شريف، إن “نقص المياه في العاصمة لا يعني فقط عطش السكان، بل انهيار قطاعات كاملة تعتمد على المياه، مثل الصناعة والخدمات الصحية”.
كما نبّه إلى أن الهبوط الأرضي الناتج عن سحب المياه الجوفية تجاوز في بعض مناطق طهران 25 سنتيمترًا سنويًا، مما يهدد استقرار البنية التحتية.
الحكومة بين الطوارئ والحلول الدائمة
بينما تتسابق المؤسسات الحكومية لاتخاذ إجراءات عاجلة، دعا البرلمان إلى إعداد خطة وطنية لإدارة الأزمة المائية تتضمن استثمارًا أكبر في مشاريع التحلية ونقل المياه.
تتضمن الخطط المقترحة:
إنشاء محطات تحلية صغيرة في شمال البلاد وربطها بخطوط نقل إلى العاصمة.
تشديد العقوبات على الاستخدام الصناعي غير المرخّص للمياه.
إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة للزراعة.
برامج توعية عامة لترشيد الاستهلاك.
وفي المقابل، تواجه الحكومة انتقادات لعدم تنفيذ برامجها السابقة لتقليل الهدر المائي، رغم تحذيرات الأمم المتحدة منذ عام 2018 بأن “إيران تتجه نحو أزمة عطش جماعي”.

الاقتصاد والمجتمع على المحك
الأزمة المائية في طهران تُلقي بظلالها على الاقتصاد المحلي، حيث يتوقع محللون أن يؤدي تقنين المياه إلى انخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 10% على الأقل في القطاعات المعتمدة على المياه مثل الأغذية والمعادن.
كما أن أسعار المياه المعبأة ارتفعت بالفعل بنسبة 30% خلال الأسابيع الماضية بسبب زيادة الطلب.
وفي الأحياء الجنوبية للعاصمة، شكا السكان من انقطاعات متكررة في المياه وصلت إلى ست ساعات يوميًا في بعض المناطق.
من الناحية الاجتماعية، بدأت حملات تطوعية لتوزيع المياه على الأسر المحتاجة، في حين أطلقت منظمات غير حكومية حملات توعية تحت شعار “كل قطرة تهم”.
السيناريوهات المقبلة: بين الأمل والمخاوف
تتوقع مراكز الأرصاد احتمال هطول أمطار خفيفة في النصف الثاني من نوفمبر، لكن التقديرات تشير إلى أن هذه الكميات لن تكون كافية لرفع منسوب السدود بشكل كبير.
وفي حال غياب الأمطار حتى ديسمبر، ستكون الحكومة مضطرة لتطبيق السيناريو الثالث، أي الإخلاء الجزئي للمناطق الأكثر تضررًا.
وفي حال تنفيذ الخطة، يتوقع أن يشمل الإخلاء مناطق شمال وغرب طهران حيث شبكة المياه تعتمد كليًا على سد أمير كبير، بينما يتم توجيه السكان مؤقتًا إلى مراكز إيواء في محافظتي البرز وقم.
هذه الخطوة، إن حدثت، ستكون الأولى من نوعها في تاريخ إيران الحديث بسبب الجفاف.
الخبراء يدقون ناقوس الخطر
في تصريحات لصحيفة “طهران تايمز”، أكد الخبير البيئي مهدي بور رحيمي أن الأزمة الحالية “ليست مفاجئة بل نتيجة تراكم طويل لسياسات مائية غير مستدامة”.
وأضاف: “إيران تحتاج إلى ثورة حقيقية في إدارة المياه، وليس حلولًا مؤقتة. إذا لم تتغير السياسات الزراعية والصناعية، فسنواجه أزمة مشابهة كل عام”.
خاتمة وتقييم مستقبلي
تواجه طهران اليوم معادلة معقدة بين الزمن المتبقي قبل نفاد المياه والقدرة المؤسسية على إدارة الأزمة.
ومع أن سيناريو الإخلاء لا يزال احتمالًا بعيد التنفيذ، إلا أن مجرد طرحه على الطاولة يعكس حجم التهديد الذي بات يواجه ملايين الإيرانيين.
الأزمة، وفق الخبراء، ليست فقط نتيجة للجفاف، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على التكيّف مع تغيّر المناخ وإصلاح سياسات المياه قبل فوات الأوان.