تركيا تتحدّى إسرائيل: مذكرات توقيف وقطع للعلاقات
في تطور جديد وغير مسبوق في العلاقات التركية الإسرائيلية، أعلنت النيابة العامة في إسطنبول يوم الجمعة 8 نوفمبر 2025 عن إصدار مذكرات توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو و36 من كبار المسؤولين في حكومته، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال العدوان المستمر على قطاع غزة.
القرار الذي أحدث ضجة واسعة في الأوساط السياسية والإعلامية، اعتبره محللون بأنه أقوى تحرك قانوني تتخذه دولة إقليمية ضد إسرائيل منذ بدء الحرب، وأنه يعكس تحوّل أنقرة من مجرد طرف منتقد إلى لاعب فعّال يسعى لفرض محاسبة قانونية دولية.
وقال بيان النيابة التركية إن المذكرات شملت شخصيات عسكرية وأمنية إسرائيلية بارزة، من بينها وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، وقادة في جهاز الاستخبارات والموساد. وأوضح البيان أن التحقيقات أُجريت بالتعاون مع مؤسسات حقوقية تركية ودولية جمعت شهادات ووثائق حول المجازر في غزة.
وأكدت النيابة أن تركيا، بصفتها دولة موقعة على اتفاقيات جنيف، “ملزمة قانونيًا وأخلاقيًا بالتحرك ضد الجرائم التي تُرتكب ضد المدنيين”، مشيرة إلى أن المذكرات تمثل “رسالة واضحة مفادها أن الإفلات من العقاب لم يعد مقبولًا”.
أنقرة تُصعّد الموقف دبلوماسيًا واقتصاديًا
لم يقتصر رد الفعل التركي على الجانب القضائي، إذ أعلنت الحكومة بعد ساعات من صدور القرار عن تعليق كافة أشكال التبادل التجاري مع إسرائيل وإغلاق المجال الجوي التركي أمام الرحلات الإسرائيلية بشكل كامل.
وأوضح وزير التجارة التركي أن بلاده “لن تكون جزءًا من منظومة اقتصادية تدعم آلة الحرب”، مؤكدًا أن القرار جاء بعد اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان.
كما شملت الإجراءات وقف عبور السفن الإسرائيلية عبر مضيق البوسفور وميناء مرسين، وهو ما يعني شلّ حركة الإمداد التجاري الإسرائيلية عبر البحر الأسود. وتعد تركيا أحد أهم الممرات البحرية والتجارية لإسرائيل في المنطقة.
ويرى محللون أن هذه الخطوات تحمل دلالات سياسية عميقة، إذ تُظهر استعداد أنقرة لاستخدام أدواتها الاقتصادية كوسيلة ضغط إقليمي، في وقت تسعى فيه لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط.
رد إسرائيلي غاضب واتهامات متبادلة
من الجانب الإسرائيلي، قوبلت التحركات التركية بسيل من الانتقادات الحادة.
وصف متحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية القرار بأنه “مسرحية سياسية بلا أساس قانوني”، مؤكدًا أن إسرائيل “لن تعترف بأي مذكرات صادرة عن القضاء التركي”.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بيان مقتضب، إن “من يُصدر مذكرات توقيف بحق جنود يدافعون عن شعبهم، إنما يدعم الإرهاب”.
وأضاف أن بلاده “سترد سياسيًا ودبلوماسيًا على هذه الخطوة العدائية”، في إشارة إلى احتمال تجميد الاتفاقيات الثنائية وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع أنقرة.
في المقابل، شدّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على أن “القانون الدولي فوق الجميع”، مشيرًا إلى أن تركيا “لن تتراجع عن مواقفها الأخلاقية تجاه ما يحدث في غزة”، وأن الردود الإسرائيلية “تكشف عن قلق حقيقي من فقدان الشرعية”.
خلفية سياسية وقانونية
تاريخيًا، مرت العلاقات بين تركيا وإسرائيل بمحطات صعود وهبوط منذ سبعينيات القرن الماضي.
ورغم أن البلدين وقّعا على اتفاقيات تعاون عسكري واستخباراتي في التسعينيات، فإن العلاقات بدأت تتدهور منذ عام 2009 بعد حادثة “دافوس” الشهيرة، عندما انسحب أردوغان من جلسة مشتركة مع شمعون بيريز قائلاً “أنتم تعرفون جيدًا كيف تقتلون”.
ثم جاءت حادثة سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، التي قُتل فيها عشرة ناشطين أتراك على يد القوات الإسرائيلية أثناء محاولتهم كسر الحصار عن غزة، لتدفع بالعلاقات إلى أدنى مستوياتها.
وعلى الرغم من محاولات التهدئة في السنوات اللاحقة، بما في ذلك إعادة السفراء عام 2022، فإن حرب غزة الأخيرة فجّرت الخلاف مجددًا.
فتركيا تتبنى خطابًا داعمًا للفصائل الفلسطينية وتتهم إسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية”، بينما ترى تل أبيب في الموقف التركي “تحريضًا مباشرًا ضدها”.
الموقف التركي من حرب غزة
منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، اتخذت أنقرة موقفًا حازمًا ضد العمليات الإسرائيلية.
الرئيس أردوغان وصف نتنياهو أكثر من مرة بأنه “مجرم حرب”، داعيًا العالم إلى التحرك لوقف “المجزرة”.
كما استدعت تركيا سفيرها من تل أبيب في منتصف 2024، وأغلقت القنصلية الإسرائيلية مؤقتًا في إسطنبول بعد احتجاجات شعبية حاشدة.
تزامن ذلك مع حملات تبرع ضخمة في تركيا لدعم غزة، وإرسال شحنات مساعدات طبية وغذائية عبر مصر.
وتقول أنقرة إنها “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام استمرار الجرائم”، معتبرة أن دورها كقوة إقليمية يفرض عليها الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
ردود فعل إقليمية ودولية متباينة
أحدثت الخطوة التركية ردود فعل متناقضة على الصعيد الدولي.
فبينما رحبت بها بعض الدول العربية والإسلامية واعتبرتها “نصرة للعدالة”، أبدت واشنطن والاتحاد الأوروبي قلقًا من تبعاتها السياسية والقانونية.
الولايات المتحدة وصفت مذكرات التوقيف بأنها “إجراء رمزي يزيد من تعقيد الأزمة”، بينما دعت الأمم المتحدة إلى “ضبط النفس وتغليب الحلول الدبلوماسية”.
أما إيران وقطر وماليزيا فقد عبّرت عن دعمها الكامل للقرار التركي، وأعلنت استعدادها للتعاون في أي مسعى قانوني لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين.
وفي الداخل التركي، قوبل القرار بترحيب شعبي واسع، حيث خرجت مظاهرات مؤيدة في إسطنبول وأنقرة رفعت صور أردوغان ولافتات كتب عليها “العدالة لفلسطين”.
التداعيات الاقتصادية المتوقعة
اقتصاديًا، يُتوقع أن تُلقي الأزمة بظلالها الثقيلة على التبادل التجاري بين البلدين، الذي بلغ نحو 7.2 مليار دولار عام 2023.
وتُعد إسرائيل من أبرز شركاء تركيا في مجالات التكنولوجيا والطاقة والاستيراد الزراعي.
لكنّ الحكومة التركية تقول إن الخسائر المحتملة “لن تُقارن بالخسائر الإنسانية التي تقع في غزة”.
وأكد وزير المالية التركي أن أنقرة تدرس توجيه صادراتها نحو أسواق بديلة في آسيا وإفريقيا، فيما يجري الإعداد لاتفاقات تجارية جديدة مع دول عربية.
ورغم المخاطر الاقتصادية، يرى مراقبون أن الخطوة قد تعزز مكانة تركيا سياسيًا على المدى الطويل، إذ تعزز صورتها كدولة “تتخذ مواقف مبدئية” في مواجهة الانتهاكات.
تحليل: ما وراء التصعيد
يرى خبراء أن الأزمة الراهنة تتجاوز حدود الخلاف السياسي، وتمس جوهر التحولات في توازن القوى بالمنطقة.
فأنقرة، منذ سنوات، تسعى إلى إعادة تعريف دورها الإقليمي كقوة مستقلة عن المحورين الغربي والإسرائيلي، فيما تحاول تل أبيب الحفاظ على نفوذها الأمني والاقتصادي في شرق المتوسط.
ويشير محللون إلى أن تركيا تسعى عبر هذه التحركات إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
تعزيز مكانتها الدولية كمدافع عن القضايا العادلة، وخاصة القضية الفلسطينية.
الضغط على إسرائيل سياسيًا لإجبارها على وقف عملياتها في غزة.
استثمار الموقف داخليًا لكسب مزيد من الدعم الشعبي للحكومة التركية.
أما إسرائيل، فترى أن هذه الإجراءات محاولة لعزلها إقليميًا، خصوصًا بعد انفتاح بعض الدول العربية على علاقات طبيعية معها.
السيناريوهات المستقبلية
السيناريو الأول: استمرار التصعيد
في حال تمسّك الطرفان بمواقفهما، قد تدخل العلاقات مرحلة “الجمود الكامل”، مع إغلاق السفارات ووقف الرحلات الجوية نهائيًا، وربما فرض عقوبات متبادلة.
السيناريو الثاني: وساطة دولية
من المرجّح أن تتدخل دول مثل قطر أو مصر أو حتى الولايات المتحدة في محاولة لاحتواء الأزمة، خاصة إذا تسببت في تعطيل مشاريع الطاقة الإقليمية.
السيناريو الثالث: تهدئة مشروطة
قد تلجأ أنقرة لتجميد بعض الإجراءات إذا حصلت على تنازلات ملموسة من إسرائيل، مثل السماح بإدخال مساعدات أكبر لغزة أو إطلاق سراح أسرى فلسطينيين.
خلاصة المشهد
تُعيد الأزمة التركية الإسرائيلية الحالية إلى الأذهان عقودًا من العلاقات المتوترة التي ت oscillate بين التحالف والتصادم.
لكن ما يميز هذه المرحلة هو البُعد القانوني والدبلوماسي الذي أضافته أنقرة عبر مذكرات التوقيف، وهو ما جعل الأزمة تأخذ طابعًا دوليًا يتجاوز مجرد الخلاف السياسي.
وبينما يرى البعض أن تركيا تخاطر بعلاقاتها التجارية في وقت يعاني فيه اقتصادها من تحديات، يعتقد آخرون أن أنقرة تسعى لتثبيت نفسها كـ “صوت العدالة” في المنطقة، خاصة مع غياب تحركات فعالة من المجتمع الدولي.
وفي النهاية، تبقى الأنظار متجهة نحو ما إذا كانت إسرائيل ستتعامل مع التحرك التركي كتهديد جدي، أم مجرد خطوة رمزية ستتلاشى بمرور الوقت.
لكن المؤكد أن العلاقات بين البلدين لن تعود كما كانت، وأن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من إعادة التموضع السياسي بين قوى تتصارع على النفوذ والشرعية.