
سهم نستله ينهار وسط أزمة داخلية
في مشهد غير مألوف لشركة الأغذية العالمية العملاقة نستله، هبط سهم الشركة بشكل حاد خلال جلسات التداول الأخيرة، وسط أزمة إدارية داخلية وتحديات مالية متراكمة أربكت المستثمرين وأثارت أسئلة واسعة حول مستقبل الشركة واستراتيجيتها المقبلة. ويأتي هذا الانهيار المفاجئ في وقت يشهد فيه قطاع الأغذية العالمي ضغوطًا متزايدة من التضخم وارتفاع تكاليف الإنتاج وتغير سلوك المستهلكين، ما يجعل أي اهتزاز في كيان بحجم نستله حدثًا كبيرًا تتردد أصداؤه في الأسواق كافة.
بدأت القصة مع إعلان الشركة تغييرات جذرية في صفوف قياداتها العليا. فقد تمت إقالة الرئيس التنفيذي السابق لوران فريكسي على خلفية مزاعم سلوك غير ملائم، فيما استقال رئيس مجلس الإدارة بول بوك بعد ضغوط من كبار المساهمين، ليخلفه بابلو إيزلا القادم من خارج قطاع الأغذية، ويُعيَّن فيليب نافراتيل رئيسًا تنفيذيًا جديدًا. هذه التغييرات المفاجئة، رغم أنها بدت محاولة لتجديد الدماء وتحقيق إصلاحات داخلية، أثارت قلق المستثمرين بشأن غياب خطة واضحة للمرحلة المقبلة.
في أول اجتماع داخلي كبير عقده نافراتيل مع موظفي الشركة (“All Hands”)، أقر بأن نستله تواجه تحديات مالية وتشغيلية غير مسبوقة، وأشار إلى أن خطة الإصلاح قيد الإعداد وستُعلن قريبًا، إلا أن الاجتماع انتهى قبل موعده بنصف ساعة تقريبًا، ما ترك انطباعًا سلبيًا لدى العاملين والمراقبين على السواء، إذ اعتُبر علامة على عدم وضوح الرؤية حتى اللحظة.
هذا الارتباك في القيادة ترافق مع أرقام مقلقة في السوق؛ إذ تراجع سهم نستله بأكثر من 40% مقارنة بذروته عام 2022، وهو أكبر انخفاض للسهم منذ سنوات طويلة. ويعكس هذا التراجع مزيجًا من العوامل: ارتفاع أسعار المواد الخام والطاقة نتيجة التوترات الجيوسياسية، تراجع الطلب في أسواق رئيسية بسبب التضخم وضعف القوة الشرائية، وفقدان جزئي لثقة المستثمرين بسبب التغييرات الإدارية المفاجئة.
ويرى محللون أن أزمة نستله تعكس تحديات أوسع تواجه شركات الأغذية الكبرى حول العالم، حيث تضطر هذه الشركات إلى إعادة تقييم نماذج عملها في ظل تصاعد المطالب بالاستدامة والشفافية والمنتجات الصحية. في الماضي كانت نستله رمزًا للموثوقية والاستقرار، لكن الأحداث الأخيرة قد تؤثر في هذه الصورة إن لم تُدار الأزمة بحكمة وسرعة.

ويُتوقع أن يعتمد بابلو إيزلا وفريقه على خبراته السابقة في إدارة شركات كبرى خارج قطاع الأغذية، مثل “إنديتكس” المالكة لزارا، لفرض انضباط مالي وتشغيلي أكبر داخل نستله. لكن يتساءل خبراء عن مدى إمكانية نقل هذه التجربة إلى صناعة الأغذية ذات الخصوصية العالية والهامش الربحي المختلف.
كما يشير بعض المستثمرين إلى أن الأزمة الحالية ليست مجرد أزمة قيادة بل هي أزمة ثقة في قدرة الشركة على التكيف مع عصر جديد من المتغيرات: سلاسل توريد مضغوطة، مستهلكون أكثر وعيًا ومتطلبات بيئية وصحية أعلى. تلبية هذه التحديات تتطلب استثمارات ضخمة وابتكارًا مستمرًا، ما يضغط على الأرباح في الأمد القصير ويزيد قلق الأسواق.
ردود الفعل في الأسواق المالية كانت سريعة؛ فقد شهد السهم موجات بيع مكثفة وارتفعت رهانات البيع على المكشوف، بينما رأت بعض المؤسسات المالية الكبرى أن هذا الانخفاض فرصة شراء على المدى الطويل نظرًا لقوة أصول الشركة وعلاماتها التجارية العالمية.
الإعلام الاقتصادي الأوروبي خصّ الحدث بتغطية موسعة، معتبرًا أن ما يجري في نستله جرس إنذار لشركات القطاع بأكمله. كما بدأت الحكومات في مراقبة أداء الشركات العملاقة وتأثيرها على الأمن الغذائي والأسعار العالمية، وهو ما قد يفتح الباب أمام تشريعات أكثر صرامة بشأن الشفافية والتسعير العادل.
على مستوى العمليات الداخلية، تحاول الإدارة الجديدة طمأنة الموظفين والموردين بشأن استمرار دفع المستحقات والحفاظ على الجودة وتطوير المنتجات رغم الأزمة. وتدرس الإدارة حاليًا برنامجًا لإعادة شراء الأسهم أو توزيع أرباح استثنائية لاستعادة ثقة المستثمرين، لكن القرارات النهائية لم تُعلن بعد.
من جانب المستهلكين، ظهرت مخاوف على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن تأثير هذه الأزمة على أسعار منتجات نستله وجودتها، خصوصًا أن الشركة تمتلك علامات شهيرة في القهوة وحبوب الإفطار وأغذية الأطفال والمياه المعبأة. أي اهتزاز في هذه الشركة قد ينعكس مباشرة على سلاسل الإمداد وأسعار السلع في أسواق متعددة.
التاريخ يظهر أن شركات كبرى مرت بأزمات مشابهة وتعافت عندما تحركت بسرعة وبشفافية. اليوم التحدي أمام نستله مزدوج: إعادة بناء الثقة داخليًا وخارجيًا، والقدرة على الابتكار والتوسع في أسواق جديدة رغم الضغوط الاقتصادية. نجاح الإدارة الجديدة في تحويل الأزمة إلى فرصة أو فشلها في ذلك سيحدد مصير الشركة في السنوات المقبلة.
في النهاية، ما يجري مع نستله ليس مجرد هبوط عابر في السهم، بل لحظة مفصلية قد تعيد تشكيل مستقبل الشركة وصورتها في أعين المستثمرين والمستهلكين على حد سواء، وربما تترك بصمتها على قطاع الأغذية العالمي بأكمله.