طلب عالمي متزايد على السلاح التركي
شهدت الصناعات الدفاعية التركية طفرة غير مسبوقة خلال عام 2025، إذ أصبحت محط أنظار الأسواق العالمية مع ارتفاع حاد في الطلب الدولي على منتجاتها من الطائرات المسيّرة، وأنظمة الرادار، والمركبات المدرعة، والذخائر الذكية. ووفقًا لبيانات رسمية نشرها موقع Bigpara التابع لمجموعة حرييت الإعلامية التركية، بلغت قيمة صادرات قطاع الدفاع والطيران التركي نحو 6.7 مليار دولار أمريكي خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي، بزيادة 31% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وهو ما يعدّ رقمًا قياسيًا في تاريخ القطاع.
تركيا تتقدم بثبات نحو العالمية في قطاع الدفاع
يأتي هذا النمو الكبير في ظل سياسة وطنية تعتمد على تحقيق الاكتفاء الذاتي في الإنتاج العسكري وتقليل الاعتماد على الخارج. فمنذ مطلع العقد الماضي، تبنّت أنقرة استراتيجية متكاملة تهدف إلى تطوير قدراتها الدفاعية داخليًا، عبر دعم الشركات المحلية وتشجيع البحث والتطوير في التقنيات العسكرية المتقدمة.
ويُعتبر قطاع الصناعات الدفاعية والطيران من أسرع القطاعات نموًا في تركيا، حيث ارتفعت حصته من إجمالي الصادرات التركية إلى 3.5%، ما يؤكد تحوّله إلى أحد محركات الاقتصاد الوطني وأدوات النفوذ السياسي على الساحة الدولية.
أرقام تروي قصة نجاح
بحسب الإحصاءات الصادرة عن مجلس المصدرين الأتراك، فقد سجلت الشركات التركية العاملة في هذا المجال زيادة قياسية في حجم التعاقدات مع أكثر من 180 دولة حول العالم، من بينها دول في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا وآسيا الوسطى.
وتصدّرت الولايات المتحدة قائمة الدول المستوردة للمنتجات الدفاعية التركية، تلتها قطر وباكستان والإمارات وأذربيجان، فيما دخلت دول أوروبية جديدة على خط الشراء، خاصة بعد النجاحات التي حققتها الطائرات المسيّرة التركية في مناطق النزاع المختلفة.
وتوضح البيانات أن صادرات الطائرات بدون طيار (المسيّرات) مثل “بيرقدار TB2” و”أقينجي”، كانت أبرز أسباب هذا النمو، إذ أصبحت رمزًا عالميًا للتكنولوجيا العسكرية التركية الحديثة.
تحليلات الخبراء: من الصناعة المحلية إلى القوة العالمية
يرى الخبراء أن التحول الذي شهدته الصناعات الدفاعية التركية لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة رؤية استراتيجية طويلة الأمد. فالحكومة التركية رفعت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في هذا القطاع إلى أكثر من 1.5 مليار دولار سنويًا، وشجعت على إقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، مما أسفر عن ظهور شركات كبرى مثل Aselsan وRoketsan وBaykar التي أصبحت اليوم علامات تجارية عالمية.
ويقول المحلل العسكري التركي إسماعيل دمير، الرئيس السابق لهيئة الصناعات الدفاعية، إن ما يحدث اليوم "يمثل انتقال تركيا من مرحلة استيراد السلاح إلى مرحلة تصديره على نطاق واسع، وهو تحول استراتيجي يغير موازين القوى الاقتصادية والعسكرية في المنطقة".
الطلب العالمي يتزايد رغم التحديات
من اللافت أن الطفرة في الطلب العالمي على السلاح التركي تأتي في وقت يشهد فيه الاقتصاد الدولي تباطؤًا عامًا بسبب الأزمات الجيوسياسية. لكن رغم ذلك، واصلت الصادرات الدفاعية التركية نموها بمعدل يتجاوز معظم القطاعات الصناعية الأخرى.
ويعزو الخبراء ذلك إلى مرونة الشركات التركية وقدرتها على التكيف مع متطلبات الأسواق المختلفة، حيث استطاعت أنقرة تقديم حلول عسكرية منخفضة التكلفة وذات كفاءة عالية مقارنة بمثيلاتها الغربية.
كما ساهمت مشاركة تركيا في معارض الدفاع الدولية مثل IDEF وDubai Airshow وEurosatory في تعزيز سمعة منتجاتها عالميًا، إذ وقّعت على هامش هذه المعارض عقود تصدير بمئات الملايين من الدولارات.
تنويع الإنتاج وفتح أسواق جديدة
تركز الشركات التركية حاليًا على توسيع نطاق منتجاتها ليشمل أنظمة الحرب الإلكترونية، والصواريخ الباليستية قصيرة المدى، والمركبات البحرية غير المأهولة.
وقد أعلنت شركة Roketsan مؤخرًا عن تطوير نظام صاروخي جديد بمدى يتجاوز 300 كيلومتر، بينما تواصل شركة Aselsan تطوير أنظمة اتصالات متقدمة للجيش التركي وللتصدير.
في المقابل، تعمل شركة Baykar على إطلاق جيل جديد من الطائرات المسيّرة المسلحة “Kızılelma” التي يُنتظر أن تحدث نقلة نوعية في مفهوم القتال الجوي المستقبلي، إذ يمكنها الإقلاع والهبوط ذاتيًا من السفن الحربية دون طيار.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن تركيا أصبحت من بين أكبر 15 دولة مصدّرة للسلاح في العالم، وهو إنجاز لم يكن متوقعًا قبل عقدين فقط.
الأثر الاقتصادي والسياسي للنجاح الدفاعي
لا يقتصر نجاح قطاع الدفاع التركي على العوائد المالية فحسب، بل يمتد ليشمل تعزيز النفوذ السياسي والدبلوماسي لأنقرة. فالدول التي تشتري الأسلحة التركية غالبًا ما تعمّق علاقاتها مع تركيا في مجالات أخرى مثل التجارة والطاقة والبنية التحتية.
كما ساعدت هذه الطفرة في خلق عشرات الآلاف من فرص العمل في مجالات الهندسة والإلكترونيات والتصميم الصناعي، ما أسهم في تنمية المدن الصناعية الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول وكونيا وإسكي شهير.
ويرى المحللون أن هذا النجاح يعزز من قوة الموقف التفاوضي التركي في القضايا الإقليمية، حيث أصبح لتركيا وزن عسكري واقتصادي متزايد في محيطها، خصوصًا مع قدرتها على تصدير التكنولوجيا لا مجرد استيرادها.
مستقبل الصناعات الدفاعية التركية
تسعى تركيا إلى تحقيق هدف استراتيجي يتمثل في رفع صادرات الصناعات الدفاعية إلى 10 مليارات دولار سنويًا بحلول عام 2030، وهو ما يبدو ممكنًا في ظل النمو الحالي.
كما تخطط الحكومة لزيادة نسبة المكوّنات المحلية في الإنتاج الدفاعي إلى أكثر من 85% خلال السنوات المقبلة، بما يقلل الاعتماد على المورّدين الأجانب ويعزز السيادة الوطنية.
ويتوقع الخبراء أن يشهد العقد القادم توسعًا كبيرًا في التعاون العسكري بين تركيا ودول الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، خاصة في ظل نجاح التجارب التشغيلية لمنتجاتها على أرض الواقع.
تُظهر هذه الأرقام والمؤشرات أن الصناعات الدفاعية التركية تجاوزت مرحلة التجربة إلى مرحلة الريادة العالمية، بعد أن أصبحت من أبرز مصادر الدخل الوطني وأحد أعمدة الاقتصاد الجديد في الجمهورية التركية.
ومع استمرار الازدهار في هذا القطاع، يبدو أن أنقرة تمضي بخطى ثابتة نحو ترسيخ مكانتها كقوة صناعية دفاعية لا يمكن تجاهلها على الساحة الدولية.