أجواء الجمعة بين العادات العربية والتركية.. مزيج فريد من الروح
أجواء الجمعة بين العادات العربية والتركية.. مزيج فريد من الروح
التاريخ:
أجواء الجمعة بين العادات العربية والتركية.. مزيج فريد من الروح
في تركيا، يوم الجمعة له نكهة خاصة، فهو يوم يعبق بالإيمان والتقاليد واللقاءات العائلية. لكن عندما تتلاقى العادات التركية مع تلك العربية، ينشأ مشهد اجتماعي وروحي فريد يعبّر عن تنوع المجتمع التركي وثرائه الثقافي. في مدن كإسطنبول، غازي عنتاب، وأنقرة، لا يمكن أن تمرّ الجمعة دون أن تلاحظ هذا الامتزاج البديع بين ثقافتين توحدهما العقيدة وتجمعهما الحياة اليومية.
الطقوس الدينية.. لحظة وحدة في بيوت الله
تبدأ ملامح الجمعة منذ الصباح، حيث تُرفع أصوات الأذان في الأحياء والمناطق التاريخية، وتستعد المساجد الكبرى مثل جامع السلطان أحمد، وجامع السليمانية، وجامع العرب في بي أوغلو لاستقبال المصلين من مختلف الجنسيات. العرب المقيمون في تركيا، سواء من سوريا أو مصر أو العراق أو اليمن، يحرصون على حضور خطبة الجمعة في المساجد التي يُلقى فيها جزء من الخطبة بالعربية، ما يخلق شعوراً بالألفة والانتماء. وفي المقابل، يشارك الأتراك جيرانهم العرب فرحة اليوم، فتبدو المساجد كأنها لوحات فسيفسائية من اللغات واللهجات والملابس المختلفة، يجمعها هدف واحد: العبادة والتقرب إلى الله.
تُلقى الخطب غالباً بالتركية، لكنها لا تغفل الرسائل التي تلامس هموم المجتمع العربي المقيم، خاصة في إسطنبول وغازي عنتاب حيث تنتشر الجاليات العربية بكثافة. وبعد انتهاء الصلاة، تمتزج التحيات بالعربية والتركية:
“جمعة مباركة” تلتقي بـ “Hayırlı Cumalar” في مشهدٍ بسيط لكنه مليء بالدلالات عن التعايش والتقارب الثقافي.
أداء صلاة الجمعة في المساجد
ما بعد الصلاة.. موائد عامرة ولقاءات دافئة
في الثقافة التركية، تُعد وجبة الغداء بعد صلاة الجمعة من الطقوس الراسخة. العائلات التركية غالباً ما تجتمع حول “البيلاف” (الأرز باللحم أو الدجاج) أو “الكفتة”، بينما تضيف العائلات العربية نكهاتها الخاصة مثل “المقلوبة” أو “الكبسة” أو “المنسف”. وفي بعض الأحياء العربية في إسطنبول مثل “الفاتح” و“أسنيورت”، تتحول المطاعم إلى ملتقى للمغتربين العرب الذين يحرصون على تناول الغداء الجماعي بعد الصلاة مباشرة، وكأنهم يعيدون طقوس الجمع العائلية التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية.
على الجانب الآخر، يفضل الأتراك الخروج بعد الغداء إلى المقاهي أو الحدائق العامة، حيث تتناثر أحاديثهم عن كرة القدم أو السياسة أو الأسعار، فيما ينشغل العرب بالمكالمات مع أسرهم في الخارج أو بجلسات سمرٍ تمتد حتى المساء.
الأسواق والجمعة.. نشاط وحياة
مع حلول العصر، تبدأ الحياة التجارية بالازدهار. الأسواق الشعبية مثل “جراند بازار” و“سوق الفاتح” تمتلئ بالزوار من مختلف الجنسيات. العرب المقيمون في تركيا يجدون يوم الجمعة فرصة مثالية للتسوق الأسبوعي، وشراء ما يحتاجونه من منتجات عربية أو تركية بأسعار مخفضة. وفي المقابل، يعتمد كثير من التجار الأتراك على هذا اليوم لترويج بضائعهم، إذ يشهد إقبالاً كبيراً من العائلات التي ترى في الجمعة وقتاً مثالياً للتبضع قبل عطلة نهاية الأسبوع.
هذا التداخل بين التسوق والروحانية هو ما يميز الجمعة التركية–العربية: يبدأ اليوم في المسجد وينتهي في الأسواق، في دورةٍ تجمع العبادة بالحياة اليومية، والروح بالواقعية.
سوق الفاتح
المقاهي.. ملتقى الثقافات
من مشهد المصلين في المساجد إلى ضجيج الشوارع بعد الصلاة، يتبدل الإيقاع دون أن يفقد نغمة الانسجام. المقاهي في إسطنبول تصبح بعد صلاة الجمعة مسرحاً لتداخل العادات. فبينما يفضل الأتراك احتساء الشاي مع “السميت” أو القهوة التركية، يميل العرب إلى طلب “النسكافيه” أو “الشاي العربي” مع النرجيلة. في مقاهي “تقسيم” أو “أكسراي” أو “الفاتح”، تجلس مجموعات عربية وتركية جنبًا إلى جنب، تتناقش في الدين أو الحياة أو الأعمال، وكأن هذا اليوم هو جسرٌ اجتماعي لا يُشبه أي يوم آخر.
المقاهي
لمسة العائلات السورية واليمنية والمصرية
تضيف الجاليات العربية نكهة مميزة لأجواء الجمعة.
السوريون: يحرصون على إعداد “الكبة” أو “المجدرة” كوجبة أساسية بعد الصلاة، وغالباً ما يلتقي الأصدقاء في البيوت لتبادل الأحاديث عن الوطن.
اليمنيون: يحتفظون بعادة “الزبيب والعسل” بعد الغداء، ويُكثرون من الدعاء الجماعي عقب صلاة العصر.
المصريون: يحبّذون الخروج إلى المنتزهات أو زيارة الأقارب، ويحملون معهم طابعهم المرح والودود الذي يترك بصمة في الأحياء التركية.
هذه التفاصيل الصغيرة تشكّل لوحة إنسانية عميقة، حيث تتحول الجمعة إلى مساحة من التفاعل الثقافي والإنساني، تتجاوز الدين لتصل إلى القلوب.
الكبة
الأجواء الروحية.. السكينة في قلب الزحام
على الرغم من الزحام الذي تشهده المدن الكبرى، إلا أن الهدوء يعمّ الشوارع القريبة من المساجد لحظة إقامة الصلاة. يتوقف أصحاب المتاجر عن العمل لبضع دقائق احتراماً للشعيرة، بينما تتعالى أصوات التكبير من المآذن التاريخية لتملأ الأجواء. وفي تلك اللحظات، يشعر المقيم العربي بأن تركيا ليست بلدًا غريبًا، بل بيتًا آخر يجمعه مع أهله في الدين والروح.
وفي بعض المساجد مثل مسجد العرب (Arap Camii) وجامع الفاتح، تُقام بعد الصلاة دروس دينية قصيرة أو حلقات تلاوة قرآن تجمع الشباب من العرب والأتراك، ما يعكس عمق الروابط الدينية المشتركة.
الجانب الاجتماعي والإنساني
تسهم الجمعيات العربية والتركية في تعزيز روح الجمعة من خلال أنشطة تطوعية، مثل توزيع الوجبات المجانية أمام المساجد، أو جمع التبرعات للفقراء. وفي بعض المناطق، تنظم البلديات فعاليات ثقافية بعد صلاة الجمعة، يشارك فيها العرب والأتراك، مثل عروض الفنون التقليدية أو الأسواق الخيرية، ما يجعل من الجمعة يوماً للتكافل والتواصل الإنساني.
منبر للتقارب والتفاهم
تؤكد التجارب أن يوم الجمعة بات وسيلة للتقارب بين الشعوب المقيمة في تركيا. ففيه يتبادل العرب والأتراك الابتسامات والتهاني، ويتحدثون بلغةٍ تجمع بين “العربية” و“التركية”، دون حواجز. ويقول أحد الأئمة في إسطنبول:
“الجمعة هنا ليست فقط صلاة، بل مناسبة تجمع المسلمين من عشرات الدول تحت سقف واحد، في مشهد لا تراه إلا في تركيا.”
روح واحدة في ثقافتين
عندما تغرب شمس الجمعة على مآذن إسطنبول، تكون المدينة قد شهدت يومًا فريدًا يجمع الإيمان بالإنسان، والعادات بالتقاليد، والعربية بالتركية. يخرج المصلون من المساجد بابتسامة وطمأنينة، ويتوجهون إلى بيوتهم محمّلين بطاقة جديدة للأسبوع القادم. وفي هذا المزيج الجميل، يبقى يوم الجمعة رمزًا للهوية المشتركة بين العرب والأتراك، وعنوانًا للتعايش الذي صنع من تركيا وطنًا ثانيًا لملايين العرب.