
الأتراك يسجلون رقمًا قياسيًا في شراء العقارات
شهد قطاع العقارات التركي خلال السنوات الأخيرة تحولات كبيرة أثرت على حركة الشراء والبيع داخليًا وخارجيًا. ومع بداية عام 2025 برزت ملاحظة مهمة في البيانات الرسمية للبنك المركزي التركي، حيث تبين أن الأتراك سجلوا رقمًا قياسيًا جديدًا في حجم شراء العقارات بالخارج، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه تركيا انخفاضًا ملحوظًا في حجم شراء الأجانب للعقارات داخل البلاد. هذا التغير اللافت دفع خبراء الاقتصاد والمستثمرين إلى قراءة المشهد بعناية، بحثًا عن الأسباب والانعكاسات المستقبلية على الاقتصاد التركي وسوق العقارات.
خلفية عن سوق العقارات التركي
يُعتبر قطاع العقارات في تركيا أحد أعمدة الاقتصاد المحلي، إذ ساهم خلال العقدين الأخيرين في جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية، خاصة بعد تطبيق قانون تملك الأجانب للعقارات في عام 2012.
وقد تركز اهتمام المستثمرين الأجانب على مدن كبرى مثل إسطنبول، أنطاليا، وأنقرة، بالإضافة إلى ولايات ساحلية مثل مرسين وموغلا، نظرًا لجاذبيتها السياحية وتنوع الفرص الاستثمارية فيها.
لكن في السنوات الأخيرة، ومع تغير الأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية، بدأت المؤشرات تشير إلى تراجع نسبي في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العقارات، مقابل زيادة ملحوظة في توجه الأتراك أنفسهم إلى شراء العقارات في الخارج.
تفاصيل الأرقام وفقًا للبنك المركزي
أظهرت بيانات البنك المركزي التركي أن حجم شراء الأتراك للعقارات في الخارج بلغ خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025 نحو 1.498 مليار دولار، وهو أعلى رقم يتم تسجيله في التاريخ الحديث.
أما على الجانب الآخر، فقد بلغت قيمة مشتريات الأجانب للعقارات داخل تركيا خلال نفس الفترة 1.217 مليار دولار فقط، وهو رقم يعكس تراجعًا واضحًا بالمقارنة مع سنوات الذروة (2018 – 2022) حين تجاوزت المبيعات للأجانب حاجز 6 – 7 مليارات دولار سنويًا.
هذا التباين أدى إلى تسجيل عجز صافي في ميزان العقارات بقيمة 281 مليون دولار، وهو ما يعني أن الأموال الخارجة من تركيا لشراء عقارات بالخارج فاقت الأموال الداخلة من خلال مبيعات العقارات للأجانب.
ذروة الشراء الخارجي في يوليو 2025
تشير البيانات إلى أن شهر يوليو 2025 كان الأكثر نشاطًا، حيث بلغ حجم مشتريات الأتراك للعقارات في الخارج 253 مليون دولار خلال شهر واحد فقط، وهو رقم قياسي لم يحدث من قبل.
هذا الرقم يعكس توجهًا متزايدًا لدى الأتراك نحو الاستثمار أو السكن في الخارج، ربما بحثًا عن فرص أكثر استقرارًا أو تنويعًا للمخاطر الاستثمارية، خاصة في ظل التغيرات الاقتصادية المحلية.
أسباب انخفاض شراء الأجانب للعقارات في تركيا
تعددت الأسباب التي دفعت الأجانب إلى تقليص حجم استثماراتهم العقارية في تركيا:
ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا: جعل التمويل أكثر تكلفة وأثر على القرارات الاستثمارية.
التقلبات الاقتصادية في تركيا: خصوصًا تقلبات سعر الليرة التركية مقابل الدولار واليورو.
تغير قوانين الحصول على الجنسية التركية مقابل الاستثمار: بعد أن رفعت الحكومة الحد الأدنى المطلوب للحصول على الجنسية إلى 400 ألف دولار، ما جعل بعض المستثمرين يعيدون النظر.
الوضع الجيوسياسي: التوترات الإقليمية أثرت على ثقة المستثمرين الأجانب.
زيادة الضرائب والرسوم: فرض بعض القيود الإضافية على تملك الأجانب، مثل الضرائب العقارية السنوية، جعل السوق أقل جاذبية للبعض.
دوافع ارتفاع شراء الأتراك للعقارات في الخارج
في المقابل، ازداد اهتمام الأتراك بشراء العقارات في الخارج لعدة أسباب:
الرغبة في تنويع الأصول: الأتراك يسعون لتنويع استثماراتهم وتوزيعها على أسواق أكثر استقرارًا.
التعليم والعمل: العديد من العائلات التركية تشتري عقارات في أوروبا أو الولايات المتحدة لتأمين إقامة أو فرص تعليم أفضل لأبنائها.
حماية المدخرات: مع تراجع قيمة الليرة التركية، أصبح الاستثمار في عقارات بالدولار أو اليورو وسيلة لحماية رأس المال.
سهولة الإجراءات في بعض الدول: مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، التي تقدم برامج "الإقامة الذهبية" مقابل شراء عقارات.
تحويلات المغتربين: الأتراك المقيمون في أوروبا والخليج ساهموا بشكل مباشر في رفع حجم المشتريات العقارية بالخارج.
تحليلات الخبراء
يرى خبراء الاقتصاد أن هذه التحولات قد تكون مؤقتة، لكنها تعكس في الوقت نفسه حالة عدم اليقين التي يعيشها السوق المحلي.
بعض المحللين يعتبرون أن التراجع في الاستثمارات الأجنبية مؤشر سلبي يجب التعامل معه عبر إصلاحات اقتصادية وتشريعية.
في المقابل، ينظر آخرون إلى زيادة استثمارات الأتراك في الخارج كعلامة على انفتاح أكبر للاقتصاد التركي على العالم، حتى لو كان ذلك عبر خروج رؤوس الأموال.
خبراء العقارات المحليون يؤكدون أن التوازن سيعود في حال استقرار الليرة التركية وانخفاض معدلات الفائدة، ما سيعيد جذب المستثمرين الأجانب مجددًا.
انعكاسات على الاقتصاد التركي
تراجع تدفق العملة الصعبة: انخفاض مشتريات الأجانب يعني تدفق أقل من الدولار واليورو إلى السوق المحلي.
ضغط على قطاع البناء: الذي يُعتبر أحد أكثر القطاعات اعتمادًا على الاستثمارات الأجنبية.
زيادة التحويلات للخارج: وهو ما قد يضغط على ميزان المدفوعات التركي.
فرصة للمطورين المحليين: قد تدفع هذه التغيرات الشركات التركية للتركيز أكثر على الطلب المحلي بدل الاعتماد على الأجانب.
التوقعات المستقبلية
يتوقع خبراء أن تشهد الفترة القادمة عدة سيناريوهات:
استمرار التراجع إذا لم يتم اتخاذ خطوات لتحفيز الاستثمار الأجنبي.
انتعاش محتمل إذا ما نجحت الحكومة في تطبيق إصلاحات اقتصادية وتثبيت سعر الليرة.
زيادة التوجه للأسواق الخارجية من جانب الأتراك، خاصة في أوروبا ودول الخليج، مع استمرار ضعف العملة المحلية.
الأرقام الأخيرة للبنك المركزي التركي تعكس تحولات هيكلية في قطاع العقارات. فبينما يسجل الأتراك أرقامًا قياسية في شراء العقارات بالخارج، يتراجع الطلب الأجنبي على العقارات التركية إلى أدنى مستوى منذ 2017.
هذه المعادلة تحمل رسائل واضحة لصناع القرار: ضرورة تعزيز ثقة المستثمر الأجنبي من جهة، وتقديم حلول للمستثمر المحلي من جهة أخرى، بما يضمن توازن السوق والحفاظ على مكانة العقارات كأحد أهم مصادر العملة الأجنبية في تركيا.