موجة ادخار ذهبية تجتاح تركيا… وريزه في الصدارة
موجة ادخار غير مسبوقة
لم تكن العاصمة التركية أنقرة، ولا المدينة الاقتصادية الأكبر إسطنبول، هما المتصدرتان هذه المرة في سباق الذهب، بل فاجأت ولاية ريزه الواقعة على الساحل الشمالي لتركيا الجميع، عندما احتلت المرتبة الأولى في زيادة ودائع الذهب خلال عام 2025، لتصبح حديث الأوساط الاقتصادية والإعلامية في البلاد.
وفقًا لبيانات رسمية صادرة عن هيئة التنظيم والرقابة المصرفية التركية (BDDK)، فقد ارتفعت ودائع الذهب في ريزه من نحو 6.5 مليار ليرة تركية في بداية العام إلى أكثر من 17.3 مليار ليرة بنهاية سبتمبر 2025، أي بزيادة مذهلة تجاوزت 167% في غضون تسعة أشهر فقط.
هذا الارتفاع القياسي جعل من الولاية الصغيرة المطلة على البحر الأسود رمزًا لموجة جديدة من "الادخار الذهبي" التي تجتاح تركيا من أقصاها إلى أقصاها.

الذهب... الملاذ الآمن في زمن التقلبات
لطالما كان الذهب بالنسبة للأتراك أكثر من مجرد معدن ثمين أو زينة تقليدية، فهو يُعتبر وعاءً للثقة في أوقات الأزمات. ومع تضخم الأسعار، وتراجع قيمة الليرة، والتقلبات في أسواق المال، أصبح الاتجاه نحو الذهب خيارًا منطقيًا لملايين الأسر التركية.
توضح بيانات الأسواق أن سعر الأونصة بلغ في أكتوبر نحو 4,381 دولارًا، بينما قفز سعر غرام الذهب إلى أكثر من 5,900 ليرة تركية، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السوق المحلي.
هذه الارتفاعات دفعت المواطنين إلى تحويل مدخراتهم النقدية إلى ودائع ذهبية في البنوك، أو إلى شراء الذهب الفعلي كسبائك ومجوهرات، تحسبًا لأي هزّات اقتصادية محتملة.
ريزه تتفوق على الكبار
مقارنةً بإسطنبول، التي تُعدّ المركز المالي والاقتصادي الأول في البلاد، فإن ريزه لا تملك نفس الحجم الاقتصادي أو عدد السكان، لكنها تجاوزت العاصمة الاقتصادية في نسبة الزيادة وليس في القيمة الإجمالية.
ففي إسطنبول، ارتفعت ودائع الذهب من 452.5 مليار ليرة إلى 907.1 مليار ليرة خلال نفس الفترة، بنسبة نمو بلغت نحو 100.4%، وهي نسبة مرتفعة لكنها أقل من الطفرة التي شهدتها ريزه.
أما في أنقرة، فقد زادت ودائع الذهب بنسبة تقارب 93.8%، لتبقى خلف الولايتين من حيث وتيرة النمو.
هذا الفارق الكبير بين المدن الثلاث يعكس تغيّرًا في جغرافية الثروة الادخارية في تركيا، فبدلاً من أن تتركز الزيادات في المدن الكبرى، بدأت تظهر أنماط جديدة في مناطق أصغر وأكثر استقرارًا.
لماذا ريزه؟ الأسباب الاقتصادية والاجتماعية
يرى الخبراء أن ظاهرة ريزه لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الاجتماعية والثقافية في تركيا.
فالمنطقة معروفة بتقليد قوي في الادخار الأسري، حيث يحتفظ السكان بثرواتهم على شكل ذهب ومجوهرات منذ عقود، وغالبًا ما يُستخدم الذهب كهدايا في الأعراس والمناسبات.
لكن الجديد في 2025 هو انتقال هذا الادخار التقليدي من المنازل إلى النظام المصرفي، بعد أن أطلقت البنوك التركية برامج جديدة لربط حسابات الودائع بالذهب، تتيح للعملاء الاحتفاظ بمدخراتهم بشكل آمن وسهل التداول.
ويضيف محللون أن سكان المناطق الشمالية الشرقية مثل ريزه وأرتفين وطرابزون، يميلون بطبيعتهم إلى الاستثمار المحافظ، وأنهم يثقون بالذهب أكثر من الأسهم أو العقارات في ظل تقلب أسعار الفائدة والسياسات الاقتصادية المتغيرة.
كما أن ارتفاع تحويلات المغتربين الأتراك في الخارج لعب دورًا في دعم هذا التوجه، إذ يفضّل كثير من المغتربين تحويل مدخراتهم إلى ذهب بدلاً من الليرة.
تأثيرات محلية ووطنية
تنامي ودائع الذهب بهذا الشكل اللافت لا يمر دون تأثير على الاقتصاد الكلي.
فمن جهة، يشير اقتصاديون إلى أن هذا التوجه يعكس فقدان الثقة النسبية في العملة المحلية، مما قد يُعمّق أزمة التضخم إن استمر لفترة طويلة.
ومن جهة أخرى، يرى آخرون أن تحويل الذهب إلى ودائع بنكية، بدلاً من الاحتفاظ به في المنازل، يُسهم في رفع مستوى الأمان المالي ويُساعد البنوك على إدارة السيولة بشكل أفضل.
غير أن هناك تحذيرات من أن هذا "التحوّل الذهبي" قد يؤدي إلى جمود في حركة رأس المال المنتج، لأن الأموال المجمدة في شكل ذهب لا تدخل الدورة الاقتصادية أو تُستخدم في تمويل المشاريع، وهو ما قد يبطئ النمو على المدى البعيد.
قطاع الذهب والمجوهرات... بين الانتعاش والقلق
مع ارتفاع الطلب على الذهب الخام والمصنّع، شهدت أسواق المجوهرات في تركيا نشاطًا غير مسبوق، لكن في المقابل تواجه الشركات العاملة في هذا القطاع تحديات حادة.
ففي تصريحات سابقة نقلتها وسائل إعلام محلية، قال أحد كبار صُنّاع المجوهرات في إسطنبول:
"لقد وصلنا إلى النقطة التي يمكن أن نصفها بالانتحار الاقتصادي، فالقيود على استيراد الذهب والضرائب المرتفعة تخنق السوق."
وتُظهر بيانات اتحاد الصاغة الأتراك أن حجم واردات الذهب انخفض خلال النصف الأول من عام 2025 بنسبة 40% تقريبًا، نتيجة القيود المفروضة على الاستيراد، ما أدى إلى نقص في المعروض وارتفاع الأسعار محليًا، وهو ما انعكس بدوره على تكلفة الإنتاج والمبيعات.
انعكاسات على سلوك المستثمر التركي
من المثير للاهتمام أن التحول نحو الذهب لم يقتصر على الأفراد فقط، بل امتد إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة التي بدأت تُحوّل جزءًا من أصولها السائلة إلى ذهب، لتقليل المخاطر الناتجة عن تقلب أسعار الصرف.
ويقول خبير التمويل التركي محمد كوركماز:
"نلاحظ منذ عامين أن المستثمر التركي أصبح أكثر حذرًا. بعد تجربة التضخم وتراجع الليرة، أصبح الذهب بالنسبة له شكلًا من أشكال التأمين ضد المجهول."
ويضيف كوركماز أن هذا الاتجاه "قد يُفسَّر على أنه فقدان للثقة في النظام المالي، لكنه أيضًا يعكس عقلانية اقتصادية نابعة من التجارب الأخيرة"، مشيرًا إلى أن معظم المواطنين ينظرون إلى الذهب كقيمة حقيقية لا تتآكل بمرور الزمن.
من الادخار الفردي إلى الظاهرة الوطنية
وفق تحليل اقتصادي نشرته CNBC-e، فإن موجة الادخار بالذهب أصبحت ظاهرة وطنية عابرة للطبقات والمناطق.
فمن الأسر الريفية البسيطة إلى التجار في المدن، أصبح الجميع يسعى لتحويل مدخراته إلى المعدن الأصفر.
ويقدّر أن إجمالي ودائع الذهب في النظام المصرفي التركي تجاوز 1.5 تريليون ليرة تركية بنهاية سبتمبر 2025، وهو رقم قياسي جديد في تاريخ البلاد.
هذا التحوّل الكبير يأتي في وقت تتراجع فيه الثقة بالاستثمارات المالية الأخرى، مثل الأسهم والسندات، بسبب اضطراب أسعار الفائدة، إذ خفّض البنك المركزي التركي الفائدة مرتين هذا العام لدعم النمو، ما جعل العوائد البنكية أقل جاذبية مقارنة بالذهب الذي يواصل الصعود.
انعكاسات على السياسة النقدية
من منظور اقتصادي أوسع، يطرح تصاعد ودائع الذهب تحديات أمام صُنّاع القرار النقدي في أنقرة.
فكلما زاد الادخار في الذهب، قلّ حجم الأموال المتداولة بالليرة، وهو ما قد يؤثر على قدرة البنك المركزي في التحكم بالسيولة ومعدلات التضخم.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن نحو 15% من مدخرات الأتراك الآن في صورة ذهب، وهي نسبة تضاعفت تقريبًا خلال عامين فقط.
وفي الوقت نفسه، تسعى الحكومة إلى تحويل الذهب إلى أداة مالية قابلة للتداول عبر برامج مثل "الودائع الذهبية" التي تمنح فائدة رمزية وتحافظ على القيمة الاسمية بالذهب، في محاولة لدمج هذا المخزون الضخم داخل النظام المالي الرسمي.
ريزه… عنوان لمرحلة جديدة
تُعدّ قصة ريزه مؤشّرًا رمزيًا على تحوّل ذهني أوسع داخل المجتمع التركي.
فبينما كانت إسطنبول وأنقرة دومًا في مقدمة المؤشرات الاقتصادية، فإن مدن الأطراف بدأت تُعلن عن حضورها الاقتصادي بطرق جديدة.
وليس من المستبعد أن تُصبح ريزه نموذجًا يُحتذى في "الادخار الذكي" إذا ما نجحت البنوك في استثمار هذا الزخم لصالح التنمية المحلية.
يقول الاقتصادي التركي علي أوزتورك:
"ما نراه في ريزه ليس مجرد زيادة في ودائع الذهب، بل تحوّل في الوعي المالي. الناس لم تعد تثق في الأوراق بقدر ما تثق في الأصول الحقيقية."
نظرة إلى المستقبل
مع استمرار ارتفاع أسعار الذهب عالميًا، وتوقعات بأن يظل المعدن الأصفر فوق مستوى 4,000 دولار للأونصة في 2026، يبدو أن موجة الادخار الذهبي في تركيا لن تتراجع قريبًا.
لكن الخبراء يحذرون من أن الاعتماد المفرط على الذهب كملاذ آمن قد يُبطئ تدفّق الاستثمارات في القطاعات المنتجة، ما لم تُتخذ إجراءات تُعيد التوازن بين الادخار التقليدي والاستثمار الحديث.
وفي ختام المشهد، يبقى الذهب بالنسبة للأتراك — من إسطنبول إلى ريزه — أكثر من مجرد معدن ثمين، بل رمزًا للأمان في زمن الأزمات، ولعل تفوق ريزه في سباق الذهب ليس مجرد صدفة إحصائية، بل تعبير صادق عن مزاج وطني يربط بين التاريخ والاقتصاد والثقة بالمستقبل.